المشهد الرابع: (فضفضة على الملأ)


 صعدَ فوق الطاولة وأدار وجهه صوب الرفوف المليئة بالكتب، لتصبح وكأنها أُناس يحدثهم، كان يستدير محاولاً إبراز صدره وباسطاً ذراعيه، وكأنما هو يستعد لإلقاء خطبة أو كلمة أمام جمع غفير ، ثم صرخ حتى أحمر وجهه وبرزت عروق رقبته قائلاً :

"لقد سُرقت، لقد افقدني الحزن والألم جزءاً من إنسانيتي، فما عدت أشعر أو اتعاطف مع شيء، حتى أني ما عدت أرى أو اسمع الأمور كما السابق، ثمة ما تمت سرقته مني، وأنا أفتقده الآن، ولست معتاداً على غيابه، ولا أعرف ماذا عساي أن أفعل، أتعرفون، أعتقد أن هذه هي المشكلة، أني لا أعرف ماذا عساي أن أفعل تجاه معظم الأمور، وهذا ما يسبب أزمة كبيرة جداً بالنسبة لي، أتمنى زوال روحي على أن أظل أشعر هذا الشعور بالدونية وعدم الجدوى لحياتي، وعدم امتلاكي لمعنى الحياة."

ألتفت خلفه ليجد غازي يسند ظهره للباب، محملقاً فيه، بفيه الفاغر ورأسه الذي يميله، بطريقة تضفي على ملامحه المزيد من البلاهة، ثم أسقط من يده كيساً كبيراً كان يحمله وبدأ بالتصفيق.


_غازي: مدهش! أهذا مشهداً من مسرحية ما تقرأها؟

ظل سيف ناظراً له وعلامات الاستغراب بادية على وجهه إلى أن افاق وقال بغضب:

_ ماذا تريد أيها الغازي؟

_غازي: لا شيء، أتيت لأسلم عليك، فقد كنت قريباً منك هنا في عمارة الحاج غنّام الجديدة، أنهيت عملاً كنت أقوم به، واحضرت لك هذا.

_سيف: ما هذا؟

_غازي: لا أعرف، أعتقد أنها مجموعة من الأوراق والكتب القديمة، ففي أثناء تنظيفنا للعمارة، وجدنا مكتبة صغيرة في أحد الغرف، فأمرنا أبناء الحاج بإفراغ محتوياتها والتخلص منها، فاقترحت أن أحضرها لك لعلك تستفيد بها، فلم يمانعوا.

ظل سيف يرمقه بنظراته الغريبة، وهو يمضغ السيجارة التي ألقاها تواً في فمه، وأخذ يحرك رقبته إلى الأمام في حركة لا إرادية يقوم بها كلما استغرق بالتفكير بشيء ما، حركة تشعرك أن ياقة قميصه أو سترته التي يرتديها تضايقه، لا أعرف كيف اشرحها لكم ولكنه عندما يفعلها أتذكر حركة رقبة الدجاجة.

_غازي: ماذا؟ 

أستيقظ سيف من استغراقه وكأنه نسي وجوده أصلا:

_سيف: أنت ماذا ؟

_غازي: ستأخذه أم ماذا؟

_سيف: ضعه يا غازي ضعه وكف عن ضجيجك...


وما إن خرج غازي، حتى رفع سيف يديه بالدعاء ناظراً للأعلى

 " لا اراح الله لك بالاً ولا اثلج لك صدراً، اللهم أطل في عمره وزد في كدره اللهم..."

عاد غازي بصورة مفاجئة وقال: " إذا أردت أن ترتب مكتبتك الرثّة هذه كما ترى أيّ، أتصل بي قبلها بيوم، ايّ ، لا تستعجلني كعادتك وتخرجني راكضاً كالحمار الهارب... ايّ؟

_سيف: حسناً.

أنتظره حتى خرج ثانية وأكمل: يا حمار

في سيف عادة كريهة، وهي أنك ما إن تخرج من أمامه، حتى يبدأ في انتقادك لابل وشتمك كائناً من كنت، وكثيراً من الأحيان كان بعض الأشخاص يعودون لغرض ما، ويسمعونه وهو مُسهب في الحديث عنهم، وشتمهم، وبالطبع فإن ذلك حدث مع غازي كثيراً نظراً لأنه أكثر المترددين عليه، ولكن غازي كان معتاداً على ذلك، ولم يحدث يوماً أن غازي أخذ موقفاً منه أو واجهه بذلك، لسبب بسيط جداً، وهو أنك أن تأخذ شخص معدم وتساعده وهو في أشد الأوقات ضيقاً، ستمتلكه للأبد حتى وإن أشعلت النار في جوفه بعد ذلك، كانت العلاقة بينهم تسير على هذا النحو، ولا شيء يؤثر فيها، نستطيع أن نقول أنها "علاقة خطّها القدر" وسيف فيها يصرّ دائماً على أن يضع غازي باختبار مستمر للوفاء، الذي سيخرج منه خاسراً لامحالة، لأن لا أحد يستطيع أن ينال من ذكاء شخص مضطرب نفسياً.

      .........   يتبع


تعليقات

المشاركات الشائعة