المشهد الثالث (سيف)


 

 في ذلك الشارع الذي لا يشبه نفسه صباحاً، سار سيف الذي يجنح الآن نحو الثلاثة والأربعين عاماً، واضعاً سيجارتَهُ المطفأة في فمهِ، ماضغاً ومقلباً إياها في نواحي فمه جميعها، كما يقلبُ تلك الأحداث والأفكار والذكريات التي لم تُرد يوماً أن تفارقهُ، والتي ما إن يصبح وحدَهُ حتى تهطُلُ وتغزُر فتغمُره، وتبرق صوراً ملتقطةً من الذاكرة، تزيدُ ضوءَ عينيه الخضراوين لمعاناً وجموداً.


ترسلُه خطواتُه الزاحفة الملائمة لهيئته الفوضوية الى حيث لا يدري، ولا يريد أن يدري، كان فقط يريد أن يبتعد، عن كل شيء، ربما الحل الوحيد لما هو فيه الآن هو أن يبتعد عن نفسه ايضاً، ليته يستطيع أن يفعل ذلك!


اليوم هو أول أيام كانون الأول، وأول ايضاً يوم لهطول الأمطار بشكلها الغزير هذا، لهذا الشتاء الممتنع عن القدوم كما يقولون، شيء غريب جداً، الجميع هنا ينتظر الشتاء ليشعر بالدفء، لماذا يجب أن تهطل الأمطار وتُشعَل المدافئ، وتُخفَت الأنوار، لنشعُرَ بهذا الدفء والشاعرية للأجواء؟ نحبُ العناء!


لم يُسكت أزيز كل تلك الأحاديث التي تدور في رأسه، إلا مع انقطاع فلتر السيجارة التي نسي أصلا أنه يلوكها، ليتسرب تبغها القذر إلى فمه، بصق السيجارة وبقايا التبغ، وأخذ يسعل سعلته المعتادة، التي تبدأ مكتومة، ثم تزداد تدريجياً إلى الحد الذي يجعلك تشعر أنه سيخرج احشاءه مع أحدها، الأمر الذي جعله واعياً بخطورة أن يظل تحت المطر، بأسماله البالية والتي تكشف عن مدى نحالة صدره، فما كان منه بعد ذلك إلا أن يلعن نفسه، ويجرّ اذيال هواجسه وذكرياته المبلّلة، ويعود إلى مكانه.


بين اكداس الكتب، يستنشقُ من غبارها، فتحكي له من أسرارها، وأهمها هو "سرُ البقاء"، ولكنه اليوم وبعد عودته المريعة تلك، قرر أن يحكي هو لها، لم يعد قادراً على أن يستمع بعد اليوم، يجب أن يتحدث، أن يصرخ، أن يبكي، أن ينفض غبار العمر وعتّ السنين الذي اغشى عينيه...يتبع


تعليقات

المشاركات الشائعة