معضلة الوقت

 
   
        
           


كان الدكتور هادي يسيرُ في الممرِ المؤدي إلى قاعةِ المحاضرات بخطواته الوئيدة ونَظَراتِه المتفحصةِ من خلفِ نظّاراتِه الدقيقةِ التي يبدو منها أنه كان يلوي على شيء، وما إن دلفَ من باب القاعة حتى استحال الصخب سكوناً، وساد الصمتُ في أرجاءِ المكان، سوى من صوتِ تقليب أوراقه، وطرطقة ساعته إذا ما حرك يده على المنصة الخشبية، ثم فجأة، أغلق الصفحات التي دأب مدّة على فتحها ورفع رأسه وقال من دون أيّة مقدمات:
_ من منكم يستطيع أن يعرّف لي الوقت؟
سادت لحظة من السكون، قبل أن يرفع أحد الطلاب يده مستأذناً للاجابة، ليقول هادي مسرعاً وكأنما التقط فريسته:
- نعم أنت هنا، تفضل....                                   
  ***         

        أصبح الوقت مؤلماً جداً بالنسبة لي، وكل ما طالت الفترة، يصير الوقت أكثر إيلاماً، اليوم أكثر ايلاماً، الساعة أكثر إيلاماً، حتى الدقائق واللحظات التي يراها البعض قليلة وسريعة، كانت تُغرس في وجداني تاركةً ورائها أثراً لا يُمحى، حتى تمثل لي الوقت وحشاً شرساً يرعبني يفزعني ويوقظني من نومي خائفاً راجفاً، وحشاً يمسك مرآته في كل صباح مشيراً الى ذلك التشوه الذي أحدثته لي الأيام، قائلاً لي عد الندوب كما تعد الأيام، منبهاً إياي أن لاشيء يمكن أن يعود كما كان...
***
-الوقت هو مقدار من الزمن أو هو طريقة لقياس الزمن ومعرفته.
-عظيم! إذا يصلكم أننا لم نستطع التحدث عن الوقت من دون أن ننسبه للزمن، فسؤالي الآن هل الوقت هو الطريقه الوحيدة لقياس أو معرفة موقعنا من هالة الزمن اللامحدودة أم أن هناك طرق أخرى؟
    ***                                         
-اااخ، أيها اللعين، لقد اصابت رأسي!
-لأنك غبي، لا أحد يدخل رأسه في المواسير هكذا، غبي في الحياة وحتى في اللعب.
-أخرس، وحدك الغبي، ولن ألعب معك ثانية.
      ***                                        
كثيرا ما نسمع عبارة "حدث قبل الحرب العالمية الأولى" أو الثانية أو بعدها أو قبل الهجرة أو غيرها من الأحداث الشهيرة، فهنا نرى أن تحديد موقعنا من الزمن كان بالحدث، حدث الحرب أو الهجرة أو الإستعمار وغيره، فما سبب ذلك؟
هل لضخامة الحدث؟ أم تأثيره؟ أو انتشاره الكبير، ولكن بالنسبة لمن؟ ومن الذي حدد إمكانية تحديد الزمن بالحدث؟
وعلى ذلك، هل يحق لنا كاشخاص قياس ازمنتنا تبعاً لما نراه مهماً من الأحداث؟ أن نعد ما نراه مهماً ونجبّ كل ما قبله مما لا نقوى على حمله!
ثم هل أعمارنا حقيقية؟ أقصد هل جميع الأيام تستحق أن تدخل  في عداد العمر المحسوب بالثواني؟
لماذا ليس هناك طريقة لحفظ الوقت؟ إذا كانت الجثث قد حُفِظت بالتحنيط، فلماذا لايُحنط الوقت وتحفظ اللحظات الجميلة؟
قال ذلك وقد بدا الانفعال واضحا من تعالي نبرة صوته ونفسه اللاهث بغير جهد،
ثم خرّ جالساً على كرسيه مطاطاً الرأس، تنظر إليه الوجوه ذاهلة.
                               ***                                   
ونبقى دائماً صناديق أنفسنا، مهما كان ما نظهره منها سيظل  هذا الصندوق يخفي الكثير، فهل ما يصيبنا من سهام الزمن سيشفينا أم يشقينا؟     
       

          

                                     ***   
      لقد غادر، ترك كل شيء وراءه، الذكريات، كوبه الفارغ، طريق ذهابه وعودته من المدرسة، ليالي الشتاء الباردة...
                                

تعليقات

المشاركات الشائعة