اعترافات سيلفيا لي بعد منتصف الليل

اليوم: الأول من تموز 2021   

الساعة: السادسة والنصف صباحاً.

المكان: من أمام مرآتي، اطالع نفسي بوجهٍ شاحبٍ وأنفاسٍ متسارعةٍ لأتأكد من حقيقةِ ما رأيته بالأمس !




الليلة الماضية حدث شيء غريب جداً، كنت قد جلست طوال الليل اقرأ رسائل سيلفيا بلاث، وقد غلبني النعاس وأنا في وسط تلك المراسلات الخاطفة، التي سرقتني من نفسي ومن عالمي لأغفو قليلاً، وكان آخر ما وقعت عليه عيناي هو صورة بلاث على غلاف كتاب الرسائل الذي تركته يداعب الهواء دفتيه ليرى ما بينهما بفضول وخجل، لأنام بجسدي وذهني كله يدور حول فلك بلاث المرصع بحروفها المتناثرة، فأرى الحلم وهو يلبس رداء الحقيقة، ويتزين بالواقع، لينسج لنا الحكاية، حكاية خلقت من كلماتِك، كلماتِك أنتِ سيلفيا...




أمواج البحر تجعل للحياة صوت، صوت عذب، تتحدث فيه الطبيعة بلغتها الخاصة الصرفة النقية، لنترجمها نحن بكلماتنا، موسيقانا ورقصاتنا التي تحركها نسائم الفرح كما تحرك نسائم الرياح غيوم السماء لتكشف عن بدء اكتمال القمر...


 قمر تلك الليلة ...



 لندن 11 فبراير 1963 


 تتناهى الى مسامعي أصوات أجراس تتعالى دقاتها بنسق غريب، نسق ينسجم مع وقع خطواتي الحذرة متعددة الظلال على شارعٍ مكسوٍ بالثلوج، يقودني الى ذلك المنزل، منزل اعرفه جيداً، صعدت السلالم بسلاسة من يعرف وجهته وانا اقاوم البرد القارص وتنميل اطرافي وخوفي الشديد وترقبي لما هو قادم، تسمرت في مكاني عندما سمعت من الشقة المقابلة صوت أنثوي خافت أقرب للطفولي يتمتم ببعض الكلمات بما يشبه النشيج الذي يتردد بلحن موحد وكأنه ترنيمات، دخلت وانا ابحث عن مصدر ذلك الصوت وسط ظلام لم يكسره سوى بعض المصابيح الخافتة الموزعة على أماكن متفرقة من الشقة، صرت اتنقل في المكان علّي اعثر على شيء، الغرفة الأولى كانت خالية تماما إلا من بعض كدسات الكتب والكثير من الأوراق والصور والطوابع المتراشقة على أرضية الغرفة، الغرفة الثانية ينام فيها طفلان كعصفورين جميلين، أمام اسرّتهم كوبان من الحليب وشطيرتان من الزبدة موضوعات على المنضدة بشكل مريب، هرعت بسرعة الى الباب الأخير الذي كان مغلقا بشريط لاصق، ورائحة غريبة تنبعث من الداخل، شرعة بسرعة في فك الشريط  الذي ما ان انخلع عن الباب حتى تسربت رائحة غاز ضربت حواسي بقوة قبل أن تكمل طريقها لتنتشر في المكان كله،  ثم رأيتها ... كانت هي.. نعم هي، كما تخيلتها تماماً، بشعرها البني ولونها البرونزي اللامع، كانت تسير بقامتها الطويلة لتضع نفسها في ذلك الفرن الذي هو مصدر هذا الغاز، صرخت بكل ما لي من صوت:


-سيلفيا لا، أرجوكِ لا تفعلي ذلك.


  نظرت الي بعينيها البنيتين اللامعتين اللائي يخبرن عن عقل نابض ونفس لا تشيخ، ثم قالت لي بثقة


وصوت قوي يتردد صداه في أذني الى الآن:


 


-جميعكم تعتقدون أن الحياة والموت مفهومان متعاكسان، متنافران، يغيب أحدهما عند قدوم الآخر، ولكنني أراهما متآلفين متجانسين بطريقة مهولة، فيجب أن تموت فيك أمور كثيرة لتحيا أخرى، الموت يوقظ كل حياة، والحياة لابد أن تأتي من رحم موت عميق، ترابط جميل، ودوامة من قتل كل ما هو حي، لإحياء ما دفن منذ زمن بعيد..


-ولكنكِ تقسين على نفسك هكذا، لماذا لا ترينها بالشكل الصحيح، لماذا لا نقبل أنفسنا كما هي، وننظر بعلوٍ وتجرد على كل شيء، أن نحكم على الكيان لا الحدث، أن تسيرنا الحقيقة لا الوهم، لماذا لا ننتظر لنهاية الحكاية بدلا من استجداء نهاية ناقصة زائفة لا تليق بنا، ارجوك سيلفيا..


-ردت بصوتها الشجي: ما لفائدة من أن تعيش حياة عابقة برائحة الخوف؟ أن تلفظ انفاساً أساسها الحزن واليأس والألم؟ أن تحلم بالعيش بعد أن كنت تعيش حلماً جميل.


-هذا غير صحيح سيلفيا، روحك قطعة من الحياة، وعينك صائدة للجمال، ولكن حبك نقي وقلبك متعلق قاتل، كنت أشعر بكِ، في صعودك وهبوطك، اجول بين عبارات الفرح والحزن، الأمل واليأس، القوة والضعف، واتعجّب كيف لإنسان واحد أن يستطيع جمع كل هذه المشاعر الإنسانية المختلفة بهذا الوقت المتقارب، جعلتِني اسمع صوت الحلم الذي لم يخمده سوى غيابك... قلت آخر كلماتي وأنا بالكاد أستطيع التنفس، بعد أن شعرت برائحة الغاز وهي تملأ رئتاي مما جعلني استيقظ وانا اشهق محاولة سحب انفاسي التي بدت لي وكأنها كانت عالقة في الجحيم، ومع كل ذلك، وفي تلك اللحظة بالتحديد لم اكن راغبة في شيء في حياتي بقدر رغبتي في الكتابة، أصبحت الكتابة بالنسبة لي الآن قصة حياة أو موت دون معنى، هرعت الى اوراقي وامسكت قلما نززت منه حبي فانتثرت معه عبراتي، كنت مأخوذة بما حدث فأخذت أتساءل في نفسي : هل يعقل أن يكون ما رأيته حقيقة، أن أكون فعلا قد استطعت بطريقة او بأخرى أن أعبر إليها، هل من الممكن أن نعتبر الاحلام وسيلة للسفر عبر الزمن والقارات، نستطيع من خلالها ترك عوالمنا والولوج الى عوالم أخرى سحيقة لم يرها سوانا، أم أنها القراءة هي التي كانت الطريقة المؤكدة للسفر والتنقل عبر الزمان والمكان والإبحار بين الحروف والكلمات التي تعيد بعثرة وترتيب نفسها لتخبرك بأمر ما كنت لتعرفه وحدك، ماذا لو أن الكلمات صنعت الاحلام! 




  الى الحقيقة الصادقة النقية مهما بدت قاسية...


الى الألم الذي ساهم في تكوين الأبداع...


 


الى خالدة الرسائل...


الى سيلفيا... 


سيلفيا الأعزّ.

تعليقات

المشاركات الشائعة