حيوانات الحي السعيدة (الجزء الأول)

 

حينا كباقي الأحياء الأقرب إلى المدينة، هادئ نسبيا، الكثافة السكانية فيه في معدلها الطبيعي ، صحيح أن شوارع الحي تملاها الحفر ، وتتزحلق السيارات أحيانا في الحصى الأبيض صيفا وبالطين السائل شتاءا، وأن هناك فقره يوميه لإشعال  الحرائق فيه دونما سبب أو مسبب، إلا أن الأمور إلى هذا الحد كانت على خير ما يرام، إلى أن قرر بعض سكان الحي أنهم سيجلبون بعض الحيوانات الغريبة والمبالغ في حجمها نظرا لوجودها في منطقه سكنيه لتقطن وإيانا هذا الحي الصغير بحجه أنهم يربونها ويستفيدون من منتجاتها،
وهنا بدأت حكايتي مع الكلب "غضبان" ، والجمل الأبله البطيء ذو الشفه المتدلية والترهلات الجلدية "صبري" والحصانين الأحمقين المتشردين "اشهب" "وثلجي"، والبقرة المتهورة والتائهة  دوما "عزيزه" ، وديك الصباح والمساء وكل الأوقات "صياح" الضرير ، وحمامه النوافذ المتلصصة الوقحة "زعروره" وغيرهم الكثير من عابري السبيل الذين كانوا يصولون ويجولون في حينا من دون حسيب ولا رقيب، غير آبهين بالسكان والمارة، وحتى المركبات أحيانا.
الجدير بالذكر أن الأسر التي تعمد على تربية تلك الحيوانات لا تتركز في منطقة واحدة أو جانب معين من الحي، بل انهم كانوا يتخذون شكلا عشوائي مبعثر يتخلل كل جنبات الحي ويحاصرها.
متى بدأت الحكاية؟
خرجت عصر يوم ربيعي جميل كثرت زهوره أنا وأبن أختي الصغير عازمين على الذهاب إلى بقاله الحي لشراء بعض المثلجات والحلوى التي نحبها ، وفي طريقنا وبوسط هدوء لم تتخلله سوى زقزقه العصافير  وإذا ب "غضبان" يخرج من بين بعض الأعشاب حيث يبدو أنه كان نائما،  ويبدأ بالنباح بطريقة مرعبة  ومستمرة تشعرك أنك لصا قد قبض عليك للتو متقدما نحونا، الأمر الذي دفعنا لتسريع خطانا  ليبدأ  هو بدوره بالركض خلفنا مفلتا من سلسلته ومخرجا لسانه الذي كان يقطر بلعابه القذر ليتوجه نحونا بصوره جعلتني اعدو بسرعه ما ظننت أنني امتلكها يوما، وأبن أختي يجري من خلفي محمر الوجه فاغرا فاه ببكاء خالطه صراخ دائم ، ما جعلني أتوقف وقدماي ترتعدان خوفا لأخذه ، وبعد صولات وجولات من كر وفر ابتعدنا عن أنظاره وفي طريق العودة سلكنا طريقا مغايرة  لألا نزعجه أو نعكر صفوه ثانية ، وعدنا بسلام ونحن نحمد لله أن "غضبان" لم يكن جائعا في ذلك اليوم وإلا لغرز أنيابه المعقوفة في اردافنا ومؤخراتنا.

وبعد عدة أيام وفي أثناء سيري صباحا في شوارع الحي المؤدية إلى الطريق الرئيسية بهدف الذهاب للجامعة لحضور محاضرة الساعة الثامنة والربع  صباحا لماده "الفيزياء" التي أكره،  لدكتور يقضي جل محاضرته وهو يستعرض أمجاده وإنجازاته العظيمة الآزفة في دول الغرب "المتقدمة"، وينتقد سلوكيات شعوبنا ومجتمعاتنا العربية "المتخلفة" ولا يفوت فرصه للنيل والتقليل منها بشتى الطرق والوسائل ونسي هو أن يتعلم أبسط بديهيات الحياه من آداب الطعام و الشراب، ذلك الوغد كان يأخذ من حين لآخر في أثناء حديثه وشرحه الممل رشفه لا بل "شفطه" من كوب القهوة الموضوع أمامه الذي أقضي معظم وقت المحاضرة وأنا أدعو ألله أن ينهيه بسرعه وأن ينساه أو يسقطه في المحاضرة القادمة وهو يصدر ذلك الصوت المقزز الأشبه بمكنسة الأرضيات، يصلون إلى آخر الإنجازات في مجال الطاقة الذرية والنووية ويتعمقون في أدق تفاصيلها ويغفلون أو يتجاهلون أمر مهم كهذا، وأنت مجبر على تقبل تلك الشخصية المتناقضة، ينادون بالمثالية وهم على النقيض منها، وفي وسط انغماسي بالتفكير بذلك السيناريو المعتاد للمحاضرة وإذا بجملين يتسكعان ويعبران الشارع من أمامي ظننت نفسي لازلت تحت تأثير النعاس وأن هذا بفعل حاجتي الملحة للنوم ، ولكن وكأنهما أحسا باستغرابي ذاك، فعبر الأول الطريق بهدوء ثم التفت الآخر اللي مغيرا اتجاهه نحوي، الأمر الذي جعل قلبي يتقافز من مكانه وتصبح ضرباته كقرع الطبول لحظه اشتداد المواجهه بين المتنافسين في حلبه الملاكمة ، تسمرت مكاني ولم أقوى على الحراك ولا حتى الصراخ والاستنجاد والجمل لايزال يقترب إلى أن أصبحت شفته القذرة المترهلة على مستوى عيني تماما ، حبست أنفاسي للحظات شعرتها ساعات وأنا أشتم رائحه أنفاسه كانت رائحه نتنة جدا أشبه برائحة العفن، ولنفس السبب الذي دفعه للوقوف وأرجحه شفتيه المتدلدلتين أمامي قرر بعدها الإنصراف ببلاهة وبطئ قاتل، أكملت طريقي وضربات قلبي لم تهدأ بعد، وأنا أتمتم ساخطه والعن كل شيء : "بقي فيلا فقط لم يحضروه لهذا الحي اللعين، هيا لماذا لا  تتصلوا (بالمهراجا كابور)،  ليرسل لكم قافله من الفيله وصندوق أفاعي إستوائيه وعربه من العجول السمينة لتكتمل فرقه العصابات تلك ، هذا لا يطاق"، قبل أن أجد العم معروف هائما على وجهه مثل كل صباح وهو يبحث عن "عزيزه" التائهة التي ما إن يجدها حتى تبدأ فقره صراع شد وجذب بين العم معروف بهيئته النحيلة محاولا الإمساك بعزيزه المتهورة التي لا ترغب بالعودة إلى حظيرة المنزل أبدا مفضله التسكع في الحقول وممارسه هوايتها المفضلة في ترويع المارة وإحداث أزمه سير خانقة للمركبات وتفريق حشود الناس بطريقتها المعتادة.

......يتبع

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة